12 mar 2013

الدرس الرابع خلق آمانة الكلمة


الدرس الرابع
خلق الآمانــــــة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) البقرة
***
ألم تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) إبرهيم.
***
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين المبعوث هدى ورحمة للعالمين  صلى الله عليه وسلم  وعلى آله  وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين ...
أحبتي في الله ، أطاب الله يومكم  وحياتكم وأطال الله عمركم وبارك لكم فيه وجعله كله في طاعة الله، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. أما بعد.. فلا زلنا في النداء الأول، والخلق الأول في كتاب الله، ومع الكلمة التى صنفها ربي  تصنيفا رائعا، وجعلها إما طيبة يصل طيبها إلى عنان السماء، وإما خبيثة كأشبه ما يكون بالمرض الخبيث الذي يؤذي النفس ويسبب الآلام والتعاسة.
ومن الضروري أن نتطرق بحديثنا إلى آمانة الكلمة، خاصة وقد جعل الله لها أيات تمهيدية قبل اخبارنا بحمل الإنسان لها.. فهيا بنا نعيش مع الآيات واحدة واحدة.. ولكني اتوسل إليكم أن تتدبروها، وأحذركم ونفسي بأن نسمع كلام ربنا ولا نضعه في حيز التنفيذ، كل على قدر استطاعته...
الآيات هي من سورة الأحزاب
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) الأحزاب
يسأل الناس عن الساعة، وتجيئ الإجابة شديدة قوية تهز كيان كل من كان عنده ذرة من عقل، وقليل من الإيمان، يقول المولى تسأل عن الساعة ربما كانت قريبة، فهل عملت لها ؟
ثم يصف لنا الرحمن الرحيم حال أهل النار وتقلب وجوههم في النار، يحذرنا لكي لا نحذوا حذوهم، ونتبع خطواتهم، ونسير في حياتنا تبعا لهم.. فيكون مصيرنا هو نفس مصيرهم والعياذ بالله..
ملحوظه:  نلاحظ هنا أن الآية الكريمة بدأت بسؤال، أي بحوار، ثم يستمر الحوار حتى آخر الآيات، مما يدلنا على أهمية الكلمة، وكيف أنها تعبر عن خفايا النفس وما يدور بالأذهان والقلوب.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
هذه لقطة تصويرية في منتهى الإبداع، تصور لنا كيف أن الكافر ساعة الجد يبيع وليه وصديقه حتى لو كان أباه.. الذي يكذب مرة، يكذب في كل مرة، والذي يتبع كاذبا فمصيره هو نفس مصير من اتبعه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
لقد آذوه بالكلام الخبيث، بالنميمة، وسوء الظن، وباتباع الشيطان وهوى النفس.. وفي نداء خاص جدا بمن آمن بالله ربا وبمحمد نبيا ورسولا يحذرنا ربنا أن نفعل مثلهم، وكأني بالله يقول لنا إياكم وسوء الظن وإياكم والخبيث من القول، فإن ذلك خيانة للآمانة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
هنا نأتي إلى مربط الفرس، نقطة في غاية الأهمية، هي غايتنا من دراسة النداء الأول، الإبتعاد عن الكلام الخبيث، عن الكذب والغش والخداع والحلف الكذب، والمراوغة والممالطة و خيانة العهد، وكل كلام يخرج منا ظاهره طيب وباطنه خبيث، والكلمة السديدة هي التى لا شك فيها، ولا شائبة، وهي التى تسد منافذ الشيطان، وهي من مرضاة الرحمن ... والآن هيا بنا نعرف نتيجة القول السديد:
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
بمجرد أن نتقي الله فيما نقول، نجد أثر ذلك في عموم حياتنا،  يصلح الله لنا حياتنا بكل ما فيها من أعمال خاطئة، وذنوب، ومفارقات تؤرق منامنا..
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
ثم يتمم لنا ربنا بقية المشوار، مشوار الصلاح والهدى، فيخبرنا بما يجب علينا فعله وهو طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفوز فوزا عظيما بعظمة الله العلي العظيم.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
الآيات تسير بنا في سياق عجيب، سلسة وفي هواده الحليم الغفار توضح لنا أخطر ما يمكن أن يواجه البشر، الوقوع في حفرة الخيانة التى هي عكس الآمانة، وهي حفرة من نار، من يقع فيها لابد له من لهيب النار يلهب أمنه وآمانه واستقرار حياته..
ولو استعرضنا معا كل المواقف التى تتطلب الآمانة، نجد إنها كلها كلامية، يأتمنك فلان بكلمة، ويودع لديك ما يأتمنك عليه بكلمة، ويسترد آمانته بكلمة، والعهد آمانة وهو بكلمة، الإخلاص أمانة وهو بكلمة، واللسان آمانة وهو بكلمة فبه يقول لك صاحبه سره يأتمنك عليه، فتحجب لسانك عن الإفصاح به، وهذه هي الآمانة...
لو دققنا في سياق الآيات، نجد أن كل ما جاء منها قبل حمل الإنسان للآمانة هو عبارة عن كلام.. كلمات بدأت بسؤال.. ونحن نعلن عن إسلامنا واستسلامنا بقول لا إله إلا الله، وكأني أرى الآمانة التى حملها الإنسان هي آمانة الكلمة، آمانة اللسان، فكلنا يتعامل بالكلمة في شتى المجالات. هذا والله أعلى وأعلم.
لقد ذهب علماءنا الكرام إلى أبعاد عميقه عن الآمانة، فقالوا إنها كل ما أعطاك الله من نعم، عينك وقلبك ولسانك ومواهبك وصحتك وجسدك، كل ذلك لابد من أن تعمله لوجه الله.
الآن كل من دقق النظر في الآيات سيجد في حياته حفر كثيرة أو قليلة من حفر الخيانة التى وقعنا فيها، فالنميمة خيانة لمن نغتابه، وعدم رحمة الضعيف والحيوان خيانة، والإعراض عن كلام الله خيانة، والسب خيانة، وعدم تلبية نداء ربنا خيانة...
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) الأحزاب.
لقد وصلنا إلى نهاية المواقف التصويرية التى صورها لنا الرحمن الرحيم بدقة وبلاغة متناهية.. وقد قسم العالم كله إلى فريقان، المنافقين والمنافقات والمشركين كل أولائك وضعهم في فريق العذاب.. فريق الخيانة.. فريق الكاذبين المخادعين الذين كفروا بالله ورسوله وضربوا عرض الحائط بآيات الرحمن ..
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) الأحزاب.
بعد أن خفقت قلوبنا من هول ما وجدنا من عدم اتباع الآمانة، يطمئننا ربنا ويخبرنا أن باب التوبة مفتوح، فهو سبحانه يتوب على المؤمنين والمؤمنات لأنه هو سبحانه الغفور الرحيم
راجع نفسك قبل أن تتكلم، فمنذ الآن أنت مسئول عن تنفيذ وتطبيق أمر الله بأن تتقيه وتقول قولا سديدا.. والقول السديد هو الذي يسد منافذ الشيطان، قول يغلق الباب أمام شياطين الإنس والجن حتى لا يلعبوا بالألفاظ، ويحولوها من كلام طيب إلى كلام خبيث.
هذا واستغفر الله لي ولكم .. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واصلح لنا شأننا كله برحمتك يا أرحم الراحمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والحمد لله رب العالمين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الأنفال.
كل النداءات التى جاءت بعد وصايا الرحمن لعباده الكرام بسورة الأنعام، كلها لتأكيد وتمحيص وتثبيت كل الأخلاق التى جاءت في النداءات قبل الوصايا.
هدفنا من هذه الدورات هو أعداد أنفسنا وأهلينا للحصول على الشهادات الربانية التى أعدها الله لنا في وصاياه بسورة الأنعام..
1.      الشهادة الأولى بأننا عاقلين  بشهادة الرحمن الرحيم { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}.
2.      ثم شهادة أخرى أكثر رقيا وارتقاءا بالذات البشرية والمجتمعات الراقية:{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
3.      ثم الشهادة الآخيرة والتى هي ضالة وغاية كل من آمن بالله:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}.
لقد اتضح لنا هدفنا من إقامة هذه الدورات التى أعدها لنا وادخرها العلي العظيم لنستطيع أن نخرج مما ألم بنا ونعيد بناء أنفسنا بالداخل والخارج.