بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم في صلاة الفجر مررنا بآية وقفت عندها كثيرا .. والعجيب أننا كنت تحدثت فيها بالأمس مع أحد أصدقائي، وقذفت إلى ذهني معاني كثيرة جدا .. سأحاول اليوم ذكر بعضها إن كتب الله لي التوفيق في ذلك ... اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .. اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا برحمتك يا كريم.
والآية تقول لكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدا نبيا ورسولا صلى الله عليه وسلم :
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
[ سورة فصلت ]
إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
ولكن كيف تكون الإستقامة؟
يجيب على هذا السؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أرجو أن نعيره سمعنا وبصرنا وعقولنا وقلوبنا فهو صلى الله عليه وسلم يدلنا دائما على الخير وعلى مافيه نجاتنا من الهلاك والضياع والدمار:
لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ ، ولا يَسْتَقِيمُ لسانُهُ ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ
الراوي أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - خلاصة حكم المحدث: حسن.
إذا فالإستقامة تبدأ من استقامة اللسان، ويظهر أثر ذلك واضحا عند الجيران .. سألوا سيدنا على رضي الله عنه عن حق الجار فقال أن تصبر على أذاه ..
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
الإستقامة تبدأ بأن نقول صدقا وعدلا ما نؤمن به حقا .. فإن قلناها بغير عقيدة ثابتة قوية وراسخة فهي مجرد كلام ، ودليل إستقامة عقيدتنا تظهر في معاملاتنا للناس عامة .. وأولهم الجيران .. طيب لماذا الجيران؟
لأن الجار هو أقرب الناس إلينا.. يرانا ندخل ونخرج، ويسمع حوارنا ويعرف زوارنا ويشعر ويرى بمعاملاتنا له .. فهو أول من يتلقى معروفنا وإحساننا أو إساءتنا خارج بيوتنا.
لايَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبد ٍحتى يَسْتَقِيم َقلبُهُ .
لا تستقيم القلوب لأن الإيمان بالله العلي العظيم ناقص ومعطل .. لم نراعي الله في تصرفاتنا .. لأن قلوبنا قد امتلأت عن آخرها بأشياء كثيرة جدا .. وبدون شك أنها من السلبيات ا لشيطانية..
طيب ياترى هذه السلبيات الشيطانية علاجها إيه ؟
ولايَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ
نعم علاجها أن يستقيم اللسان.. ولكن كيف يستقيم اللسان ؟
جعل الله تبارك وتعالى الإجابة على هذا السؤال في نداء خاص جدا بمن به آمن .. والعجيب والمدهش والغريب أنه أول نداء من رب العالمين لعباده المؤمنين.. وهو في سورة البقرة الآية 103.. حيث قال الله تبارك وتعالى ينادي على من به آمن :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وهكذا نجد أن استقامة اللسان تستدعي حتما وجذرا وبغير تفريط أن نلتزم بأمر الله بأن لا نقول كلمات أئمة الكفر والفساد، فكلمة راعنا يهودية الأصل ومعناها قبيح جدا ولكنها عندنا لا تحمل شيئا من القبح ، فلما سمعوا اليهود الصحابة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه انتهزوا الفرصة واستخدموا هذه الكلمة ليسخروا منهم [ سخر الله منهم إلى يوم الدين في كتاب يتلى حفظه رب العالمين ].
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ
[ سورة إبراهيم ]
يعني كده أصبحت المسألة واضحة تماما .. فقد قسٌم الله الكلام كله إلى طيب وخبيث .. فلنحذر ولنطهر عقولنا من الخبيث بأن نبتعد عنه .. ولكن كيف نبتعد عن الخبيث السلبي الذي يأتينا من الشيطان وأعوانه؟
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
يعني لازم نسمع أولا ونستمع إلى كلام الله .. بكثرة .. وبحزم .. وبقوة .. وبغير تهاون .. حتى نبرمج عقولنا من جديد على الكلام الطيب .. لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا...
طيب يا أستاذي المسألة ليست سهلة لأنها مسألة عادات متأصلة فينا من زمن بعيد .. والكلام بين الناس عموما قد أخذ هذا الشكل من التسيب الأخلاقي والتدهور البلاغي والإسفاف الفكري .. وهذا الأمر [ الكلام السلبي أو الخبيث أو الكذب أو الغش أو الخداع أو النفاق أو المداهنة أو المراوغة أوالفزلكة أو الفهلوة أو السخرية أو التريقة أو الإستهزاء ] كل ذلك أصبح عاديا بين الناس إلا ما رحم ربي .. فماذا نفعل ؟
أقول لكم بمنتهى الصراحة وبعد معالجة طالت معي سنين طويلة أن الأمر كله يكمن في الآية التالية :
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
[ سورة آل عمران ]
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
وهكذا نجد المسألة سهلة ومضمونة من رب العالمين .. كلما أخطأنا وزلت قدمنا وتكلمنا بما لا يرضي الله فعلينا أن نسارع إلى الله بالتوبة والإستغفار .. وهنا تكمن أول مراحل تقوى الله ..
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
علينا أن نساعد أنفسنا بأن ننفق في السراء والضراء .. خاصة مع الذين بيننا وبينهم عداوة .. فكظم الغيظ دليل الإيمان.. والعفو عن الناس هدية من الرحمن .. ثم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
والله كأني بالله يقول لكل ضعيف فينا لا تيأس من رحمة الله .. أصبر على نفسك وداوم على الإستغفار في كل مرة تقع في معصية أو زلة لسان .. ولكن حذار من أن نصر على ما فعلنا أو تكلمنا أو عدم محاولاتنا الإستقامة على أمر الله.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
***
لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ ، ولا يَسْتَقِيمُ لسانُهُ ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ
هذه المغفرة من الله العزيز الحميد سنجدها عندما يأمن جيراننا بوائقنا.. فيتذوقون طعم السلام وربما سبقونا بالسلام والأمن والآمان..
الآن نعود إلى صدر الآية التى وقفنا عندها أول النهار .. فذلك من دواعي سروري لأنني وجدت فيها بشرى جميلة من العزيز الحميد .. ومنها عرفت نفسي .. وكذلك أنتم عندما نتدبر معاني كلماتها الجليلة:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
وهنا نجد ملمح دقيق جدا وهو في غاية الأهمية .. وفي غاية اللطف والرحمة من العزيز الحميد.. أننا عندما نعمل صالح، عندما نهذب ألسنتنا، عندما نبتعد عن سماع ورؤية الخبيث من القول والعمل .. سنجد بل سنشعر بمصاحبة الملائكة لنا يبشرونا بأنهم أولياؤنا في الحياة الدنيا قبل الآخرة..
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
وبعد أن تم لنا هذا الإنسجام بيننا وبين الطيب من الكلام والصالح من العمل سنجد أنفسنا دون أن نشعر ندعو الناس إلى رب الناس ملك الناس إله الناس .. نستعيذ به من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
ولكي تتم لنا هذه السيمفونية الأخلاقية الربانية يدلنا ربنا على الطريقة المثلى .. إدفع الضرر بالتى هي أحسن .. نتواضع لله .. نترك الإنتقام لأنفسنا فيزكينا ربنا ويجعل ذلك جبال من الحسنات والعمل الصالح الإيجابي بعيدا عن الشيطان وخطواته.
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
وما ذلك إلا بالإستعانة بالصبر والصلاة .. الذي خصص لهما ربنا نداءه الثاني في سورة البقرة فقال تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
وطبعا هنا
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ولا ننسى أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في كل مرة تراودنا فكرة أو خاطرة أو طائف من الشيطان .. سيعيذنا الله إن استعذنا به صادقين..
من خلال معالجتنا لأنفسنا سنعرفها ونراها على حقيقتها ... وقد ترك لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحا نتسلح به لمواجهة أنفسنا فعليكم به كلما دعت الحاجة إليه:
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ، وَالْكَسَلِ ، وَالْهَرَمِ ، وَالْجُبْنِ ، وَالْبُخْلِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَنَفَسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا "
والحمد لله رب العالمين