الدين والحياة
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
[ سورة النمل 40]
ماذا يحدث عندما نفصل الدين عن الحياة؟
يوجد بداخلنا جهاز كمبيوترعظيم جدا وكبير جدا لا نهاية لوصفه، لا يعرف حدودا ولا مسافات والزمن لا يدخل في حساباته.. إنه العقل ولكي نعرف جزءا من حقيقته فعلينا بتدبر الآية سالفة الذكر عاليه .. [ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ] من هنا نعرف أن غذاء العقل هو العلم .. وأفضل العلوم وأعلاها هو ما نجده عندنا في كتاب الله تبارك وتعالى..حلو كده خليك معايا:
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
( الآية تنبهنا أن الشيطان قد عرف قدرة العقل في الإنسان .. عندما علم الله آدم الأسماء كلها، لذلك هو جند نفسه وإرادته لكي يحول بيننا وبين ما منحنا الله من عقل لا يعرف حدودا ولا تحده الأزمنة ولا تؤثر فيه المسافات ولا يخضع لأي نظريات أو حسابات، عقلا إذا انطلق من كتاب الله أصبح الفلاح والنجاح والتوفيق من سماته الأصيلة لا يفارقانه أبدا إلا لمزيدا من المعرفة والعلم والإيمان ).
وبعدين الشيطان قاعد متربص مستني غلطة .. همسة .. نظرة .. أي حاجة .. ويعمل من الحبة قبة، وتبدأ الرسائل الشيطانية من شيطانك لشيطانه .. ويبدأ العقل الباطن في العمل .. بطريقة سلبية، ويخفي تماما كل الإيجابيات .. حسب أمرك انت ومشاعرك انت ونيتك انت .. لأنك زعلت من الشخص الآخر..[ راجعو كتاب قوة التفكير للدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله ].
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
يدفن العقل ملفات الإعجاب .. ويفتح ملفات جديدة سلبية .. تحمل كل السلبيات .. هي كانت موجودة أصلا ولكننا كنا نتغاضى عنها .. وكذلك عقلنا .. ولكن عندما ينجح الشيطان في زرع العداوة والبغضاء ونحن نوافق على ذلك يبدأ الفكر السلبي يخرج إلى كل الدوائر التى نعيش فيها ويعود إلينا بمزيد من السلبيات ، ويتصل الفكر بالإحساس فتزداد الأفكار السلبية قوة .. ومع الوقت يتحول الحب أو الإعجاب إلى نقيضه.. وتنفجر العلاقة .. وينكسر زحاجها [ لذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قوارير من الزجاج لنحترس ولا نكسرها] .. فتتحول إلى فتافيت تجرح وتصيب وأحيانا تكون مؤلمة جدا إذا كانت من حبيب أو قريب..
حبل الله المتين
في حياة كل منا خيوط حريرية قوية جدا .. أحيانا لا نراها .. هذه الخيوط هي حبل الله المتين .. ننشغل عنها عندما نهتم بحبال الناس من حولنا .. لدينا آية عن الحبال تقول :
[ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]
هذا حبل متين من العزيز الحميد.. فإذا ما أهملناه ربما وقعنا في حفرة من النار والعياذ بالله، نار التفكك والكراهية والبغضاء وكل ما يسبب لنا الآلام .
وللناس حبال أخرى فحذار أن نخلط بين حبل الله المتين وبين حبالهم:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ
والطريقة المثلى لتجنب كل هذا نجدها في الآية التالية:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه
الراوي: أنس بن مالك - المصدر: صحيح البخاري ـ خلاصة حكم المحدث: صحيح
عندما نحب شخص أو نهتم به أو .. أو .. أو .. علينا أن نمسك بهذا الحبل .. لأن من خصائص هذا الحبل أنه تتلاشى بجانبه كل الحبال .. طرفه بيد من يمسك به وطرفه الآخر بيد الله تبارك وتعالى ..
أجمل مايريح النفوس، ويغسل القلوب ويطهرها من الوساوس والعداوة والبغضاء أن نتذكر دائما نتيجة الحب في الله .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ ، وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ ؟ ، قَالَ : هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا ، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ :
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
[ سورة يونس آية 62]
المحبة في الله تكون خالية من المصالح المتبادلة، ومن القرابة والصداقة والتجارة وكل ما يرجى من غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
يعني مفيش داعي ابدا نخسر الناس .. اي انسان مهما كان هو جندي من جنود الله ينفذ قضاء الله وقدره فينا .. فعندما يسبني أحد فهذا اختبار هل سأنحدر إلى مستواه الآخلاقي المنحط؟ أم سأعتصم بأخلاق القرآن وآخذ العفو ثم أعرض عن الجاهلين ؟
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
هذا هو الحل .. اعتصم بالله .. وخذ العفو .. لأن العفو هنا سيفرغ شحنة الغضب فيك، وسيذكرك بالله، سترى أن موقفك الإيماني هو أثمن مالديك.. وسوف تخسره إن لم تعفو ... وإن كان جاهلا فأعرض عنه حتى لو كان !!!!
وسنكتشف بعد ذلك أن التعامل مع الناس يحتاج أولا إلى قدرتنا على التسامح وأن نتغاضى عن أخطاءهم مهما كانت، وتحتاج إلى صبر كبير .. ومقومات الصبر هي العفو عن الناس.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
في هذه اللحظات لن يتركك الشيطان .. سيظل يوسوس لك .. وينزغ .. ويحتال .. ويأتيك من كل باب وجانب .. فاستعذ بالله بصدق وقوة وإحساس وإصرار. وسيعيذك الله بإذن الله من الشيطان الرجيم.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
هنا نحتاج بشدة إلى التقوى .. تقوى الله هي الدرع الواقي من كل المصائب والإبتلاءات.. ومن العفاريت الزرق.. ومن الجن والإنس .. تقوى الله هي حبل نجاتنا من الشقاء والعذاب والهلاك والضياع والفشل والإحباط والإكتئاب...
وتقوى الله هي مشوار حياة، وهي وسيلتنا الفعالة لتحقيق الإستقرار النفسي، وهي كنبتة صغيرة تنبت ضعيفة، أو هي كضوء الشمعة تتأثر بأقل تيار من تيارات الحياة، وكلما كبرت ونمت ونضجت ورسخت فينا تقوى الله كلما كانت كدرع واقي يهابه العدو قبل الصديق، وذلك بدليل الآية التالية:
يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
[الأعراف 66 ]
ثم بعد ذلك كل محاولة منك لتغيير أفكارك تعتبر عمل صالح في سبيل الله
كل معلومة تحصل عليها هنا أو في أي مكان ضعها في حيز التنفيذ.. فكر فيها قبل النوم .. واربطها بآية أو بنية حسنة .. وسيتبناها عقلك الواعي تلقائيا ..ونام وأنت محتضن نية التغيير بتطبيق ما تعلمت.
بعدها ستملك قلوب الناس بحسن معاملتك لهم وبالعفو عنهم وغض البصر عن أخطاءهم وعوراتهم.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا .. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم